الحب ليس كافيًا

 



الحب ليس كافيًا. حقيقة حزينة.

 كلما انغمس بنو البشر في المادة زادت تعاستهم، وكلما قل ارتباطهم بها وتعلقهم بما هو أسمى منها رضوا واستراحت أرواحهم. وما من شيء يصل سموه سمو خالق المادة ومُوجدها. والمادة يندرج تحتها كل شيء، من بشر وحيوان، وجماد، وغذاء، وأموال. وعليه، فإن من قل تعلق قلبه بالمادة وزاد تعلق روحه بمُهَيئِها -جل وعلا-، اتفقت له أسباب القناعة والرضا والهناء.

 ومن رحمة الله بعباده الذين استخلَفَهم في الأرض، أن هيأ لهم من الأسباب ما يعين أرواحهم -التي هي أمره وحده- على المكوث فيها حتى تحين عودتها إلى نافخها؛ فجعل على الأرض من الأسرار الإلهية ما يدفعهم للسعي في مناكبها، ودون هذه الأسرار الإلهية يفقد الإنسان كل دوافع الحياة، ويكاد يكون الموت أهون عليه من حياة لا يرى لها مغزىً، ولا يجد لها قيمة، وتُضيف إلى تعاسته، لا تُذهِب من مشقة العيش الحتمية ولو قليلًا.

 ورأيتُ أن أعظم هذه الأسرار هو الحب. الحب الفطري الذي يغذي أساس كل شيء في الوجود، والذي يعرفه الإنسان عندما يجده متجسدًا في هيئة إنسانٍ آخر، يؤنس روحه، يُمتِّعُ عقلَه، يشد عَضُدَه، يُداوى قلبَه، ويَسكُن دَمَه. عندها ترى عيناه كل شيء بصورة أخرى، تكتسي بالجمال، وكأن القبح كله قد انقشع عن عالمه، ولم يعد باستطاعته سوى أن يرى الجمال، في حبيبه، وفي نفسه، وفي كل شيء آخر يكوّن عالمه.

 ولكن، كما قال الأقدمون "الحلو مبيكملش"... أحيانًا لا يكون للحبيب مكان سوى بضعة أسطر من صحيفتنا. أحيانًا، لا يستطيع الحبيب أن يلعب دور بطولة في حكايتنا. أحيانًا -وبأشكال مختلفة- نخسر أحبتنا. 

 وبقدر حلاوة الحب تكون مرارته، وعلى قدر المرارة ترى استطيابًا عجيبًا من أهل الحب لكل ذرة منها؛ لأنهم وحدهم يعلمون أن الحب رغم وجوده في كل تفاصيلنا، إلا أن إدراكه ورؤيته هبة، ولا يعلم جوهره سوى بعض المصطفين من البَرِيّة. لأنهم وحدهم يعلمون أن الحب يستحق كل دقيقة تُقضَى احتفاءً به، وحياةً فيه، وحزنًا عليه.

 إذًا... يغيب الحبيب، ويبقى الحب. يعيش الحب مخلوطًا بالأسى، ثم يعيش مع الأسى، حتى يحل الرضا، فيسكُن الحب هادئًا في جسد صاحبه. 

 إذًا... يغيب الحبيب، ويسكن الحب، ويبقى الجمال. الجمال الذي نرى فيه أثر الله في حياتنا، سرٌ آخر من أسراره الإلهية التي وضعها على الأرض؛ حتى نسعى في مناكبها، لنتحمل بها قسوة العيش الحتمية، لنرى جمال الله في كل شيء حتى تحين لحظة رؤية جلاله الفعلية. 

جمال في كل نَفَسٍ جديد، جمال في رفرفة أجنحة الطير، جمال في زرقة السماء وزَبَد البحر، جمال في خضرة الأشجار وتساقط الثلج، جمال في براءة الأطفال وفي ابتسامات العابرين، جمال في شروق الشمس وغروبها، وبين شروق الشمس وغروبها، جمال حيثما أدرت وجهك لتقصد جمالًا.

 ربما، إذا قصدنا الجمال في بعضنا، لاستطعنا النجاح في كل ما أخفق فيه الحب. ربما لا يكون الحب كافيًا، ولكن بالحب نعرف الجمال... وبالجمال نحيا، وربما هذه المرة، يكون الجمال كافيًا. ربما حينها يكمل الحلو.

تعليقات

اقرأ أيضًا

قدَر

The myth of normal – trauma, illness, and healing in a toxic culture (Book review)