غصّة

 


غصة في حلقي. ليس اليوم فقط، وليس منذ الأمس، بل منذ أيام، أسابيع، أشهر، وربما سنين. كنت أعلم كيف أتحايل عليها؛ فإن لم يكن باستطاعتي أن أخرج الكلمات من حلقي، فسأخرجها من جوفي ومن رأسي عبر قلمي وحركاتي.

اليوم، وككل شيء، نمت الغصة، وتحورت وتطورت؛ فلم تعد تسد حلقي فحسب، نمت حتى عقدت لساني، وتحورت حتى عطلت دماغي، وتطورت حتى كادت تشل أصابعي. أقول "كادت"، وأشيد لنفسي عنادها في الاستمرار في المحاولة. أقول "كادت"، وهي قد أدركَتْ، وأشيد لنفسي كلماتها هذه، التي تثبت أن إدراكها لأصابعي لم يلبث طويلًا.

شيئان في حياتي أتكئ عليهم اتكاءً ما بعده اتكاء، وأعلم أنهما -وإن غاب عني كل شيء- يظلَّان ما ينتشلني من قعر الظلام الذي تجرني الدنيا إليه بين الحين والآخر. وفوق هذين الشيئين إيمان، ويقين، برب الكون الواسع، الواسع الذي ما كنت أبدًا برجائه شقية، أن تظل سعة رحمته تشملني.

أول الشيئين -وهو أولهما لأسبقية ثبوته الزمنية- هو دراسة الطب البشري. مرت وتمر أيام ما كنت أقوم من فراشي فيها لولا ما ينتظرني من الدراسة. ورغم استثقالي لخطواتي، ورغم لعنتي الظروف التي قادتني لاختيار مجال دراسة الطب البشري مرارًا -لعظم الأمر وكبره-، إلا أنني أعلم أنه لولاه ما كنت سأجد سلاحًا لمدافعة اليأس الذي ما يفتأ يتسلل إلى نفسي من شروخ الحياة، وأحمد الله على توفيقه لي اختياري تمام الحمد.

وثانيهما -لا لشيء سوى أنني أدركت تأثيره عليّ بعد الأول- هي الكتابة. لا أستهين أبدًا بها، ولا أستخف أو أسفه، قدرة بعض البشر على غزل الكلمات من المشاعر ونسج العبارات من الخواطر. وأحمد الله ألف ألف مرة، أن منحني القدرة على تطويع قلمي كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أو بلغ قلبي مني حنجرتي دون حيلة للخلاص.

الكتابة صديقتي الوفية، وحبوبي المهدئة، ومعالجتي النفسية. حتى حين تستعر عليّ نيران الطب، تكون هي الملجأ. وبعيدًا عن أي تهويل أو مبالغة، لولا الكتابة لتعفنت أحشائي من هول ما حبست.

اليوم، وقد نمت الغصة وتحورت وتطورت، تكاد أحشائي تتعفن. أناشد الكلمات لتخرج، أناشدها أن ترتص ولو قليلًا... عجزي عن الكتابة يثير أعصابي ويكاد يقتلني.

وليست هذه المرة كأي مرة، ليست تلك الحالة التي يسمونها بالعثرة الإبداعية أو الكتابية، بل هي شيء غير ذلك، شيء أكبر من ذلك، وأعنف منه. هي شيء دفعني إلى لتفكير في ترك الكتابة جملةً وتفصيلًا، بكل أشكالها التي أمارسها. فلماذا أكتب؟ أ لكيلا ينمو عطن الشعور بداخلي؟ أ حتى لا أكون ممن ماتوا بحسرتهم؟ وماذا على الأرض يستحق أن أقاوم لأجله؟ ماذا على الأرض يستحق أن أحرص على بيئة نظيفة بداخلي لأجله؟ أليس العطن والعفن والسواد والظلم والفساد في العالم أكبر من أن أحاربه وحدي؟ أليس أكبر من أن أحاربه بكلمات فقط؟  ماذا لو أني أستسلم؟ ... ولمن أكتب؟ أ لأجل نفسٍ ما عادت ترتجي من الدنيا شيئًا، ولا عاد شيءٌ على الأرض يغريها لتبقى؟ أ لأطيل أجل نفسٍ أصبحت ترى الأموات أغنى؟ أليست هذه أنانية بحتة؟

أناشد الكلمات وأجاهد يأسي، وأكتب. وإن كانت الكتابة تستعصي عليّ، فسأتمرد أكثر، وسأكتب عن استعصائها وعصيانها؛ فلست أنا بالتي تفلت عزيزًا أو تستسلم أمام عصيان. وإن كنت مرةً أخرى في قعر العجز وتتكالب عليّ وحوش الدنيا من المادة والبشر، فإن رحمة الله تلحقني ككل مرة، تمد يدها إليّ من شروخ النور في جدران الظلام، تهمس لي، تقول بحزم: إن لكِ على الأرض ما يستحق الثبات، إن عمل اليوم لأجل دار القرار.

سأكتب؛ لأجل الحفاظ على قلب به من السلامة ما يقابل به وجه الواسع صاحب الرحمة. سأكتب، وبالكلمة سأجاهد، نفسي وعطن العالمين. سأكتب، لأجل الفتاة التي تتشبث بحبال الجمال والخير، لأجل الشاب الذي يأسره الصدق في كلماتي، ولأجل الشابة الصغيرة التي تلهمها خطواتي مهما تثاقلت.

"إن مع العسر يسرًا".



تعليقات

اقرأ أيضًا

قدَر

The myth of normal – trauma, illness, and healing in a toxic culture (Book review)

الحب ليس كافيًا